1. تخطي إلى المحتوى
  2. تخطي إلى القائمة الرئيسية
  3. تخطي إلى المزيد من صفحات DW

لماذا انهارت الدولة العراقية؟

١٣ سبتمبر ٢٠١١

يحاول د.عبد الخالق حسين أن يجيب عن سؤال تردد كثيرا منذ قام التحالف الدولي بإسقاط نظام صدام حسين عام 2003 : لماذا قامت أمريكا بتدمير الدولة العراقية، ولماذا لم تكتف بإسقاط حكم البعث فقط، والاحتفاظ بجميع مؤسسات الدولة؟

https://p.dw.com/p/RlNR
صورة من: AP

منذ إسقاط حكم البعث الصدامي عام 2003، ونحن نسمع ونقرأ على الدوام، انتقادات وشتائم لأمريكا، من كتاب ومعلقين سياسيين، من مختلف الميول والاتجاهات الفكرية، بمن فيهم كتاب ليبراليون، عرب وغير عرب، وحتى من ألد أعداء البعث ومؤيدي إسقاط حكمه، يرددون هذا السؤال الأزلي. ويحمّل هؤلاء أمريكا مسؤولية تفكيك الدولة العراقية، ويشتمون بول بريمر، الحاكم المدني لقوات التحالف، على حل الجيش السابق والأجهزة الأمنية، ويرون أنه لولا هذه القرارات لما حصل في العراق ما حصل من فوضى، وفلتان أمني، وأعمال الإرهاب...الخ. سأناقش في هذا المقال أسباب تفكيك الدولة، وأترك موضوع حل الجيش للمقال القادم.

لقد وضع هؤلاء السادة السؤال بصيغة مضللة وعن عمد، ولو كانوا محايدين لكان عليهم وضع السؤال بالصيغة التالية: لماذا انهارت الدولة العراقية؟

لا أريد هنا الدفاع عن أمريكا في انهيار الدولة العراقية، أو إيجاد التبريرات لما حصل، ولكن إذا ما بدا جوابي وكأنه يعفي الدور الأمريكي من المسؤولية، فهو تحصيل حاصل، ودوري هنا محاولة لوصف الدولة العراقية في عهد النظام البعثي ولماذا انهارت، دون زيادة أو نقصان، وأترك الحكم للقراء.

فلو درسنا تاريخ الدولة العراقية الحديثة منذ تأسيها عام 1921، لعرفنا أنها كانت تحمل بذور انهيارها منذ البداية، إذ كانت قد بنيت على أسس خاطئة، حيث وضعت ألغام طائفية وعرقية مع حجر الأساس، تنتظر الانفجار والانهيار في الوقت المناسب. فالعزل الطائفي والعرقي هو السبب الرئيسي لعدم استقرار العراق. وفي عهد حكم البعث، قام الحزب الحاكم بمسخ الدولة، وتجريدها من كل مقومات وصفات الدولة بالمفهوم الحديث.

"حزب البعث أم عصابة من المافيا؟"

حزب البعث لم يكن حزباً سياسياً بالمعنى التقليدي للأحزاب السياسية، وإنما كان عصابة من المافيا، انتحلت السياسة، كذباً وزيفاً للتمويه، وتبنت أهدافاً وشعارات براقة وجذابة تستهوي قطاع واسع من الشباب العربي، مثل "الوحدة والحرية والاشتراكية"، و"أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة"، ولكن في مجال التطبيق نفذوا العكس تماماً، إذ لم يكتفوا بالتنكر لهذه الأهداف والشعارات المعلنة فحسب، بل ونفذوا النقيض منها تماماً، فمزقوا الشعب الواحد إلى فئات متناحرة، حيث أحيوا فيه العشائرية التي كانت قد انتهت منذ ثورة 14 تموز 1958، كما وأيقظوا الطائفية التي كانت خامدة وعلى وشك الاختفاء من المجتمع العراقي. أما على المستوى العربي، فقد أثار الحزب الحاكم أشد العداء مع شقيقه البعث الحاكم في سوريا، وعمل على تمزيق التضامن العربي حتى بحده الأدنى. ولو تقصينا تاريخ حزب البعث في العراق لتوصلنا إلى نتيجة مفادها، أن هذا الحزب هو حزب بعث القبلية والعشائرية والطائفية، وتأسس خصيصاً لتدمير العراق، وضرب الحركات الوطنية التقدمية في المنطقة، وتمزيق التضامن العربي خدمة لأجندات أجنبية ومصالح شخصية لقيادة العصابة المافيوية.

كوبلاند ودوره في المنطقة

وفي هذا الخصوص، يقول رجل الأعمال والدبلوماسي والجاسوس الأمريكي، مايلز كوبلاند، في كتابه الموسوم: "لعبة الأمم"، أن الاستخبارات الأمريكية، ومنذ الأربعينات من القرن العشرين، بدأت تعمل على إحداث انقلابات عسكرية في العالم الثالث، وبالأخص في المنطقة العربية، وإقامة حكومات تتظاهر بالعداء لأمريكا، ولكنها تخدم السياسة الأمريكية في الخفاء، وبشكل غير مباشر. وقد بدؤوا في سوريا بانقلاب حسني الزعيم الذي أصيب بالغرور، فدبروا انقلاباً آخراً ضده، ودفنوه وتخلصوا منه. وأخيراً وجدوا ضالتهم في شخص جمال عبد الناصر، الذي كانت تربطه علاقة حميمة مع مؤلف الكتاب والسفارة الأمريكية في القاهرة، إلى درجة أنهم بعد استيلاء عبد الناصر على الحكم، وفي لقاءاتهم المنتظمة، كانوا يخاطبون بعضهم البعض بأسمائهم الأولى، متجاوزين الألقاب والرسميات حتى مع الرئيس عبد الناصر.

لعب كوبلاند دوراً كبيراً في توجيه سياسة مصر الناصرية منذ انقلاب 23 يوليو/تموز 1952 إلى عام 1969 تاريخ نشر الكتاب. ونحن نعرف دور عبد الناصر في تدمير ثورة 14 تموز في العراق، واغتيال قيادتها الوطنية، وتدبير مؤامرة الشواف، وانقلاب 8 شباط 1963، وبمساعدة المخابرات الأمريكية والبريطانية.

ينطبق هذا الكلام تماماً على حزب البعث، وعلاقته بالمخابرات الأمريكية ودور الأخيرة في مساعدة البعث لاغتصاب السلطة في العراق مرتين، الأولى عام 1963، والثانية عام 1968. وهناك دراسات موثقة تؤكد عمالة صدام حسين لـ(CIA) منذ أن كان لاجئاً في القاهرة. والمعروف عن الأمريكان أنهم يستخدمون عملاءهم لأغراضهم، وما أن يصاب هذا العميل بالغرور ويشكل خطراً عليهم، حتى ويسحقوه كما عملوا مع حسني الزعيم، ونورييغا وصدام نفسه، وأخيراً بن لادن وغيرهم.

كذلك يستطيع المرء التأكد من الدور التخريبي لحزب البعث، بالرجوع إلى مؤلفات كتاب مرموقين، كانوا قد انتموا لهذا الحزب في مرحلة من حياتهم، وبتأثير من شعاراته البراقة، وشاركوا في السلطة بمستويات عالية، ولكنهم تبرؤوا منه عندما اكتشفوا حقيقة هذا الحزب، فنشروها في مؤلفاتهم القيمة كشهود عيان.

سياسة التبعيث غيرت المجتمع والدولة بنيويا

بعد اغتصابه للسلطة، وخلال 35 سنة من حكمه الجائر، عمل حزب البعث بجميع الوسائل على تبعيث المجتمع العراقي، والجيش، والأجهزة الأمنية، والهيمنة الكاملة على جميع مرافق الدولة ومفاصلها بدون استثناء، وكل من يرفض التعاون معهم يباد أو يحارب في رزق عائلته. وكما ذكر الراحل، حنا بطاطو، كان البعثيون يرددون عند مجيئهم للسلطة عام 1968، مقولة: "اللي ما يمشي على سكتنا، خلي يكعد ويه مرته"، أي كل من لا يسير على نهجنا ويتعاون معنا ليجلس مع زوجته ويعتزل. ولذلك اضطر ملايين الناس الى الانتماء للحزب خوفاً من قطع أرزاقهم وأعناقهم، أما الذين رفضوا، فأبيدوا، أو سجنوا، أو فروا من البلاد، أو اعتكفوا على أنفسهم وفضلوا العزلة طلباً للسلامة.

وقد تحول الحزب كله إلى تنظيم استخباراتي تجسسي شمل كل مرافق الدولة والمجتمع، يحصي على الناس أنفاسهم، مهمته الوحيدة حماية السلطة البعثية من غضب الشعب. وبذلك تمت إذابة الدولة في كيان الحزب، وصارت الدولة ليست ملك الشعب، بل ملك الحزب وصدام حسين وعائلته، وفق مقولة الملك لويس الرابع عشر: "أنا الدولة والدولة أنا". ولذلك حصل التماهي والاندماج الكلي بين الحزب والدولة، خاصة عندما صار جميع أعضاء القيادة القطرية أعضاء في مجلس قيادة الثورة، ومجلس الوزراء، بمعنى صار الحزب والدولة وجهان لعملة واحدة، ومن غير الممكن مطلقاً الفصل أو التمييز بينهما.

غياب الخط الفاصل بين الدولة وحزب البعث

يعتقد معظم الكتاب، وحتى الذين رحبوا بتدخل التحالف الدولي بقيادة أمريكا، أنه كان من الأفضل إبقاء الأجهزة الأمنية في حكومة البعث للمحافظة على أمن البلاد والعباد في عراق ما بعد صدام. فهؤلاء إما لم يكونوا راضين بالتغيير من البداية لأسباب أيديولوجية وعدائهم لأمريكا، أو لأنهم غير مدركين حقيقة الوضع العراقي وضخامة المشكلة، معتقدين خطأً أن هذه الأجهزة في عهد البعث كانت تشبه نظيراتها في الدول الغربية أو في مصر، أو حتى في ليبيا القذافي، بينما في الحقيقة لم تكن الحالة العراقية كذلك، ولا نظير لها في العالم. وما طالب به هؤلاء السادة، من أصحاب النوايا الحسنة، لم يكن ممكناً تطبيقه على الوضع العراقي على الإطلاق. فمعظم منتسبي الأجهزة الأمنية كانت ملطخة أيديهم بدماء العراقيين، وكان ولاؤهم للبعث وقيادة صدام فقط، مدفوعين بدوافع أيديولوجية، إضافة إلى تعريضهم إلى عمليات غسيل الأدمغة، وشحنهم بالحقد الطائفي والعرقي ومعاداة الديمقراطية وحقوق الإنسان. وعليه، فإبقاء هكذا أجهزة لحماية النظام الديمقراطي لم يكن ممكناً إلا في حالة واحدة فقط، وهي إذا قام صدام وحزبه بعمليات التحول من الاستبداد إلى الديمقراطية، وهذا من سابع المستحيلات، كما يقولون.

ففي حالة دولة البعث، وكما بينا أعلاه، احتل البعثيون جميع أجهزة الدولة، بما فيها الجيش والشرطة وجميع الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، من القمة إلى القاعدة، حتى اختفى التمييز بين الحزب والدولة تماماً. ولذلك وُصِفت الدولة العراقية في عهد البعث بـ"دولة المنظمة السرية" حسب تعبير حسن العلوي، و"جمهورية الرعب" حسب تعبير كنعان مكية. وبما أن الحزب هو ملك صدام وعائلته، لذلك صار كل شيء ملك صدام حسين وباسمه، فكان هناك مطار صدام، ومدينة صدام، ومستشفيات صدام...الخ، إلى درجة أن وضعت لافتات قرب مداخل المطارات، ومخافر الحدود لاستقبال المسافرين الأجانب كتب عليها "أهلاً بكم في عراق صدام".

فالدولة العراقية في عهد حكم البعث لم تكن دولة الشعب، بل دولة صدام حسين وعائلته وحزبه، ولا الشعب كان يشعر أن هذه دولته لكي يدافع عنها، ولو كانت حقاً دولة الشعب، لما أقدمت أمريكا على إسقاطها وبهذه السهولة، ولما بقي الشعب العراقي متفرجاً يراقب بفرح وشماتة، انهيار هذه الدولة المسخ، بل وتقديم الورود إلى جنود الحلفاء.

من كل ما تقدم، نستنتج أنه ما كان بالإمكان مطلقاً، تغيير حكم البعث دون أن تنهار الدولة بكاملها، وإعادة بنائها من جديد على أسس حضارية عصرية حديثة، دولة المواطنة والديمقراطية وحكم القانون، دولة الشعب لكل العراقيين بدون أي تمييز عرقي أو ديني أو طائفي.

عبد الخالق حسين

مراجعة ملهم الملائكة